إبراهيم كشت - وفقاً للشائع المتداول بين الناس ، فإن للكاريزما ـ فيما أرى ـ معنيان تربطهما صلة وثيقة ، المعنى الأول منهما ينصرف إلى تلك السِّمة التي يحوزها القادة الذين يتمتعون بمستوى عالٍ من التأثير والسحر والجاذبيـة ، فيستقطبون من خلال ذلك حماس الناس وولائهم ، ويؤثّرون في أفكارهم وعواطفهم ، ويكون هذا النوع من السحر والتأثير من حيث عمقه واتساعه وامتداده فوق العادة ونادر الحدوث ، وبالتالي فإن اسماء مثل هؤلاء القادة معروفة عادةً ومحفوظة ومقترنة بذلك التأثير الذي يملكونه 0
أما المعنى الثاني للكاريزما فينصرف إلى تلك الجاذبية الشخصية العادية التي يتمتع بها بعض الأفراد في المجتمع ، فتجعلهم قريبين من القلوب ، ومالكين لتأثير خاص فيمن حولهم 0 وربما يذكرنا هذا المفهوم بما كان أورده الأستاذ أحمد أمين ـ رحمه الله ـ في كتابه (فيض الخاطر) حين شبّه الشخصيات بالمصابيح الكهربائية التي تتفاوت في إضاءتها ، فهذا يضيء ما يعادل عشرين شمعة ، وذاك ستين شمعة ، وآخر مائة شمعة 000 وهكذا ، وعلى النحو ذاته فإن لكل شخص إشعاع يخبو أو يأتلق ، وبين هذا وذاك درجات مـن التفاوت 0
محور الكاريزما هو التأثير في الآخرين ، وبما أن الناس يتفاوتون في نِسَبِ تأثيرهم بدرجة كبيرة ، فلا بد أن ثمة أسباباً موضوعية تكمن خلف هذا التفاوت ، ومن ثم خلف هذا التأثير 0 إلا أن هناك نوعاً من الغموض يعتري هذه الأسباب ، ويجعلها غير بادية بجلاء دائماً ، مما يثير شيئاً من الحيرة ، ويدفع كثيراً من الناس إلى تفسير تلك الجاذبية والكاريزما بأسبابٍ ماورائية وغيبية ، أو إلى القول بأن هناك كيمياء معينة تشدُّ أشخاصاً لآخرين ، أو أن ثمة موجات أو طاقة تنبعث من بعض الأشخاص تحدث تأثيراً 000! وكل ذلك لا يستند إلى علمٍ ولا يدعمه برهان ، وما الغموض الذي قد يعتري أسباب الكاريزما إلا نتيجة لكون تأثيره يأخذ أبعاداً لاشعورية ، بعيدة الغور في عمق النفس البشرية ، حيث الغرائز والأحاسيس البدائية المبهمة التي لا نميّز كثيراً منها 0
على أية حال ، يبدو أن هناك مجموعة كبيرة من العوامل إذا اجتمع بعضها ـ وليس كلها بالضرورة ـ يمكن أن تجعل من الشخص صاحب كاريزما وسحر 0 وكل عامل من تلك العوامل إذا ذكرتَهُ ، ربما قيل لك : إن فلاناً من الناس يتمتع بكاريزما مشهودة ومع ذلك فهو لا يحوز على هذا الذي تذكره ، فلا تقل لنا أن البُنية المتينة من عوامل الكاريزما ، فقد كان نابليون قصير القامة ضئيل الجسم ، ولا تقل لنا أن طبيعة النظرات من عوامل الكاريزما ، فقد كان المرحوم طه حسين كارزمياً مع أنه كان ضريراً ، وهكذا إذن فالمسألة تحتاج إلى منطق ، فحين نقول عبارة (العوامل التي تخلق الكاريزما) فإننا نقصد ما قد يؤثر في إنشائها وإيجادها ، دون أن نعني أن كل عامل منها يجب أن يكون موجوداً في الشخص الكاريزمي .
وضمن المفهوم أعلاه فإن العوامل التي تؤدي (بعضها أو كلها أو سواها) إلى تلك الشخصية الجاذبة الساحرة يمكن أن تقسم إلى عوامل تتعلق بالشكل والبُنية والجمال والأناقة ، وعوامل تتعلق بالتعابير كملامح الوجه والابتسامة والصوت والنطق والنظرات وحركات الجسم واليدين ، ولاسيما إن كانت تلك التعابير على اختلافها تنمُّ عن هدوء داخلي ، واتزان وجداني ، وثقة بالذات ، واهتمام بالآخر ، وتَنبُّه إلى ما يجري في المحيط 0 وبعد هذا وذاك فإن هناك عوامل سلوكية تفسر جزءاً مـن الكاريزما كذلك ، مثل روح الدعابة ، واللباقة الاجتماعية ، والأدب وإتيكيت التصرف ، والتمتع بالحيويـة والطاقة والحماس للحياة ، والعفوية ، والدفء ، والبساطة ، والتواضـع ، وسرعة البديهة ، والنضوج ، والحكمة والاتزان ، وحيازة مزايا معينة كحسن الالقاء ، أو حسن السرد ، أو ما إلى ذلك 0 ويضاف إلى ما تقدم عوامل أخلاقية كالاستقامة والنبل والتضحية والإخلاص لفكرة أو مبدأ.
ولا بد أن يثور السؤال المعهود عند طرح مثل هذا الموضوع : هل يمكن اكتساب الكاريزما وتعلُّمها والتدرب عليها ؟ أعتقد أن للكاريزما جذوراً ضاربة في الجينات وترتيب الحروف الوراثية التي تبعث لدى الشخص هذه المغناطيسية والجاذبية من خلال تفاعلها المعقّد مع البيئة بمفهومها الواسع 0 وبالتالي فمن العسير أن نتصور إمكانية خلق الكاريزما أو انشائها من العدم ، غير أن هذا لا ينفي أن بمقدور التعليم أن يصقل ويهذب ويشذب وبوجّه وينمي ويطور الاستعدادات والسمات الكارزمية ، أو يظهر ما قد يكون مطموساً منها ، كما أنه قد يُحسّن من الشخصية العادية ويقلل ما يشوبُها من سمات منفّرة ، لكنه لن يجعل منها بالتأكيد شخصية كارزمية ، ولاسيما إذا كنا نتحدث عن شخصيات القادة الذين يملكون كاريزما فوق العادة .
ويبقى السؤال الأخير في هذا الموضوع وهو : هل الكاريزما خير كلها ؟ والجواب أنها ليست كذلك بالتأكيد ، ففيها الكثير من الشر ، كما أن فيها الكثير من الخير ، فهي ـ أي الكاريزما ـ في حقيقتها نوع من السيطرة والسلطة ، التي قد توجّه إيجابياً كما في حال الذين قادوا المجتمعات للخير والصلاح والتقدم ، مثلما فعل الأنبياء والمصلحون وغيرهم من أمثال غاندي أو مانديلا . كما قد توجَّه تلك السلطة سلبياً ، وتاريخ البشرية مليء بالقادة الكارزميين الذين أثّروا في عواطف الجماهير وعقولهم ، وساقوهم نحو التعصّب والحروب كما فعل هتلر ونابليون مثلاً ، أو كمثل قادة ظهروا في الأمة العربية اشتهروا بالخطابات النارية والشعارات التي شدّت الجموع إلى شخصياتهم الكارزمية ، ولكنهم لم يحققوا لتلك الجموع سوى الهزيمة والخيبة والتخلف .
حتى على مستوى الحياة الإجتماعية العادية ، فإن كثيراً ممن يتمكنون من الاحتيال المالي على الناس ، أو يتمكنون من التغرير بالجنس الآخر ، أو تضليل من حولهم للوصول إلى المناصب وشتى المآرب ، هم ممن امتلكوا شخصيات ساحرة جاذبة ساعدتهم على هذه الأفعال ، والواضح أنه كلما زاد الوعي وقلّ اعتماد أفراد المجتمع على الانفعالات ، وحَكّم العقل ، واستند إلى الموضوعية ، قلَّ تأثير الكاريزما ، وأصبح الاعتبار الأكبر للمعايير الأخرى الأكثر عقلانية وواقعية .
0 التعليقات:
إرسال تعليق