النُّكتةُ ,, أداةُ نقْدٍ مهمّةٌ ومؤثّرةٌ



كل مكونات النكتة وسماتها تجعل منها أداة تعبير سهلة الالتقاط ، قابلة لإعادة البثّ السريع ، فهي موجزة مركّزة مكثفة ، قريبة من النفس ، مطلوبة مرغوبة ، تثير الضحك ، والضحك بطبيعته يؤدي إلى الاسترخاء ، ويبعث على حسن التواصل والود والثقة بين المجموعة التي تتشارك فيه وتتبادله . ناهيك عما في كثير النكات من تعبير عن المكبوت المتواري في اللاوعي ، والذي قد يصعب التعبير عنه صراحة ، فيجد في هذا الحديث المقتضب اللطيف الخفيف المضحك وسيلة تعبير وتنفيس ، تساعد النفس على التوازن . 
فإذا كانت الأسباب المتقدمة كافية لتحقيق سرعة انتقال النكتة وانتشارها ، فإن الوسائل الحديثة المتمثلة في الانترنت ومواقع التواصل الإجتماعي والبريد الإلكتروني قادرة على الحفظ والاسترجاع والبحث والإرسال وتحقيق التشارك ، والهواتف الخلوية ، بما تتيحه من وسائل التواصل والتبادل ، والفضائيات من خلال بعض برامجها ، أسهمت بشكل كبير في سهولة تداول النكات وشيوعها، وبات تبادلها من خلال الوسائل الإلكترونية سلوكاً معتاداً ومحبباً ، يشكل وسيلة تواصل وتسلية .

الُنكتة ... موقفٌ يغيب فيه المنطق
يقول الفيلسوف الفرنسي (لالاند) في موسوعته الشهيرة إن المنطق هو (اتساق الفكر مع نفسه، واتفاقه مع الواقع) ، ومن المعروف أن ما يسمى في علم النفس بـ (الاتساق المعرفي) يعدُّ دافعاً طبيعياً من الدوافع الإنسانية ، فالفرد لا يكتفي بالتقاط المنبهات المحيطة به في بيئته وإدراكها ووعيها ، وإنما يحاول ، بدافع فطري ، أن يجد لها صوراً كلية ومعاني، من خلال ربطها ببعضها ، وبحيث تكون عناصر الصورة ومكوناتها متّصفة بالاتساق وغير متضاربة . أي أن الإنسان يملك دافعاً طبيعياً للقبول بما هو منطقي ورفض التناقض ؛ ليحقق (الاتساق المعرفي) في تصوره للأشياء والأفكار ، بل وفي سلوكه كذلك ، والذي يحرص فيه على انتفاء التضارب بين أفكاره وتصرفاته ، حتى لو لجأ إلى الخداع الذاتي ليقنع نفسه بأن معتقداته وقناعاته منسجمة مع أفعاله . وأجتهد بالقول ، إن ما تقدم حول دافع (الاتساق المعرفي) قد يفسر لنا سبب الضحك الذي نطلقه عندما نستمع إلى نكتة ، فالنكتة تعبّر عادة عن موقف يغيب فيه المنطق ، أو تظهر فيه المفارقة بشكل واضح ، وسخريتنا بالمواقف المتناقضة وغير المنطقية تعبر عن قوة الدافع الذي نملكه نحو الاتساق المعرفي ، بحيث تغدو الصورة التي تفتقد لمثل هذا الاتساق مثيرة للضحك ..! .

النُّكتةُ ... أدبٌ شعبي ساخر
وتوصف النكتة عادة بأنها أدب شعبي ساخر ، لكن هل هي نوع من الأدب فعلاً ؟ أعتقد أن الجواب نعم ، ففي النكتة تعبير عن المشاعر ، بل ربما يكون فيها تنفيس عن مكنونات اللاشعور ، فقد تعبر النكتة عن السخرية بشخص بعينه ، أو بمجموعة أو عرق أو فئة ، أو تعبر عن السخرية بنمط سلوك شائع ، كما قد تعبر النكتة عن مشاعر الاستعلاء ، فنحن نضحك على غياب المنطق في سلوك آخرين ، أو على بخلهم ، أو غبائهم ، أو نذالتهم ، على نحو يشعرنا بأننا أفضل منهم وأعلى درجة ، وكثيراً ما تعبّر النكتة عن مشاعر الإحباط، ولذلك تتعدد النكات وتتخصص في أوقات الأزمات أو ارتفاع الأسعار أو الحروب ، مثلما تتعدد النكات التي تعبر بأسلوب غير مباشر عن حالات القمع والفساد وغياب الحريات . ولعل كون النكتة (قولاً) يعبر عن شعور ، يحقق لها أول عناصر التعبير الذي يمكن أن يسمى أدباً.

وبالمعيار الذي قال به الدكتور طه حسين في تمييز الأدب عما سواه من الكلام ، أعتقد أن النكتة تعتبر أدباً بكل معنى الكلمة ، فهو يقول : { حيثما وجد الجمال في الكلام كان الأدب، وحيثما خلا الكلام من هذا الجمال كان ما شئت أن يكون } ، وفي النكتة جمال من نوع ما ، بدليل ما تثيره في النفس من بهجة ومسرّة ، وبدليل الرغبة في سماعها والضحك لها، فهي تبعث في النفس ما يبعثه الجمال من فرح ولذة عند سماع قصيدة أو موسيقى أو غناء أو رؤية منظر خلاب .

وإذا كانت النكتة أدباً ، فهي من نمط الأدب الشعبي ، حيث أنها لا تنتسب إلى راوٍ ، ولا يُعرف صاحب الفضل الأول في إطلاقها ، ولا يُسأل عنه ، ولا تتمتع النكتة بملكية فكرية أو بحقِّ مؤلف ..! كما أن النكتة تنتقل وتنتشر ويتم تداولها بين فئات الشعب كافة ، عامتهم وخاصتهم ، بسطائهم ونُخَبهم ، ويجد الجميع فيها راحة وسروراً .




النُّكتة .. أداة نقد ناجعة ..
والنكات التي يتناقلها الناس في مجتمع ما ، خلال فترة زمنية تعكس إلى حدّ بعيد جوانب من واقع ذلك المجتمع وثقافته ، وهي تشير عادة إلى سلبيات ذلك الواقع على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي ، وقد تُبالِغُ في رسم ملامح تلك السلبيات ، وتجسّد معالمها من خلال شخوص وأحداث ومواقف تُروى بإيجاز ، وتقوم بعقد المقارنات ، ثم تلجأ إلى السخرية التي تؤكد سلبية الموقف أو الحدث وعدم منطقيته . ويتلقى الناس عادة هذا الاستهزاء بالقبول ، ويؤيدونه بالابتهاج ، فالنكتة بالنسبة لمن يسمعها موضوع تَفكُّهٍ وضحك ، وليس موضوعاً مطروحاً للتحليل والنقاش ، مما يعطيها (أي النكتة) قوة أكبر في القيام بفعل النقد المؤثر الناجع .

إذا كانت النكتة – وفقاً لكل ما تقدم – أداة نقد لها خصوصيتها ، تشير بخفة وسرعة إلى بعض الثقافات وأنماط السلوك ، وتعتمد أسلوب التركيز على المفارقات ، وتمثل أدباً شعبياً لطيفاً مقبولاً سريع الانتشار ، تسهم الوسائل الحديثة في سرعة وكثافة انتقاله وتداوله ، أقول إذا كانت النكتة كذلك ، فإنها إذن وسيلة تغيير مهمة ، تبدأ بوصف الواقع وتشير إلى سلبياته ، وتحطّ من قدر هذه السلبيات من خلال تحويلها إلى مادة للسخرية . مما قد يدفع إلى إعادة التفكير والنظر فيها ، بهدف تغيير الواقع ، وتغيير الثقافة التي تسكن خلفه وتحرِّكه . فالنكتة قادرة على الإشارة إلى وجود ثقافة معينة سائدة في السلوك والتعامل ، ولفت النظر إليها ، ثم اعتبارها سلبية ، والسخرية منها ، مما قد يجعل الفئات التي تبني هذه الثقافة تعيد النظر في سلوكها ..!

إبراهيم كَشت




هل أعجبك الموضوع ؟

0 التعليقات:

إرسال تعليق