في السنوات الأخيرة ، تنبّه بعض أفراد مجتمعنا الأردني ، إلى أننا بطبيعتنا نميل نحو الخشونة في التعامل ، والقسوة في القول ، وأن المجاملات المتبادلة تغيب فيما بيننا ، وأننا نحتاج في ردود أفعالنا إلى لمسة من الرقة والرفق واللين ، وبدأت تُطلق بعض النكات والفكاهات والدعابات في المجتمع تقارن بين حديث الأردني ، وردود أفعاله قياساً بشعوب أخرى قريبة كالسوريين واللبنانيين والمصريين ، وذلك من قبيل نقد الذات .
حتى أن بعض مقالات الصحف ، اضافة الى كثير من المواضيع والتعليقات والرسومات التي تنشر في مواقع التواصل الاجتماعي ويجري تبادل التعليقات والآراء والفكاهات حولها ، باتت تشير إلى مثل هذه المفارقات والدعابات ، وأحسَبُ أن هذه الظاهرة جيدة ، لأنها تومئ إلى الاحساس بالمشكلة ، والاعتراف بها ، وهذان الجانبان (الاحساس بالمشكلة والاعتراف بها) أول خطوة في سبيل علاجها . وربما كان في تعلُّم أصول الإتيكيت وتعليمها ، بما فيها من جمال ولطف ورفق ما يعين في التغلب على الخشونة والقسوة وغياب الرفق .
في الاتيكيت .. أدب وجمال
يقول قاموس اكسفورد في معنى كلمة الإتيكيت إنه : « اسم لمجموعة قواعد آداب السلوك في المجتمع « ، ولو كان لي أن أضع لمفهوم الإتيكيت تعريفاً من عند نفسي لقلتُ إنه (فن السلوك الجميل) .
أجل ، فمن الفلاسفة من رأى أن الجمال لا يكون في الصور والأصوات وحسب ، لكنه يكون في الأفعال كذلك ، وحتى الذين لم يوافقوا هؤلاء الرأي ذهبوا إلى أننا نستطيع أن نصف الفعل بأنه جميل على سبيل المجاز .
ولِمَ لا نَصِفُ الأفعال بالجمال إذن ، مـا دام إحساسنا ببعض مـا نلاحظه من أنماط السلوك « لما فيها من ذوق وأدب ولطف ولباقة « يبعث فينا ما تبعثه في نفوسنا رؤية ورود زاهية ، أو أطيار مزركشة ، أو ابتسامة طفل ، أو سماع موسيقى عذبة ، أو شعر رائع ، أو بيان ساحر ؟ أَليسَ الجمال «مثل جميع القيم والمواضيع» شيءٌ يُدرَكُ من خلال أثاره ؟ وأثر الجمال هو سرور يقع في النفس ، وإحساس بمتعة تلقائية راقية ، وشعور بالانجذاب نحو مصدر ذلك الجمال ، وكل هذه الآثار الايجابية تجدها واضحةً مجسّدةً حين تتعامل مع التأدّب الراقي الذي يتجلى في السلوك الموافق لأصول الاتيكيت .
قبح الأفعال
إن الغلظة في السلوك ، والفظاظة في رد الفعل ، والفُحشَ في القول ، والتعابير اللفظية والحركية والايمائية التي لا تنطوي على احترام الذات والآخر ، والتصرفات التي تشير إلى قلة التهذيب ، وانحطاط الذوق ، وتَغلُّبِ العدوان على الألفة والرقة ، كل أولئك لا تحسُّه النفس السويّة والروح الشفافة إلا قُبحاً ، والقبح يبعث على الضيق والنفور والجفاء والكره ، وبالتالي فإن (تقنين) قواعد آداب السلوك وأصول التصرف الراقي في شتى الحالات والظروف والمناسبات والمواقف ، بقدر الإمكان ، يغدو مهماً ومجدياً وذا نفع ، وهذه هي الوظيفة التي يقوم بها الإتيكيت ، الذي يتضمن تفصيلاً وإرشاداً للسلوك الأكثر أدباً ولباقة وجمالاً في مختلف المواقف الاجتماعية .
وتلقى قواعد السلوك هذه قبولاً واسعاً لدى الكثير من المجتمعات في العالم ، فإذا كان جزء يسير منها يخالف ثقافة بعض المجتمعات ومقتضيات دينها ، فإنه يمكن عدم الأخذ به ، دون أن يكون ذلك سبباً في نبذ كل قواعد الإتيكيت بما فيها من أدب ولباقة وجمال .
الاتيكيت والأخلاق
مثلما يرتبط الاتيكيت بالجمال ، فإنـه يرتبط ـ فيما أرى ـ بالعديد من المعاني والقيم النبيلة ، فهو من حيث منطلقه وفلسفته يقوم على أساس من الأخلاق ، أي ينبغي أن يكون طبعاً وسجيّة وعادة ، فالأخلاق حِسٌّ راسخ في الوجدان تنطلق عنه الأفعال والمواقف والأقوال بدون تكلف 0 وكأي خُلُقٍ حميد ، فإن للإتيكيت من يدّعونه ، ويتمسكون بشكلياته أمام الغرباء ، فإذا خلا أحدهم إلـى أُسرته أو الأقربين منه ، أغلط بالقول ، وصرخ وشتم وفجر ، وآذى واعتدى ، غير أن التفريق بين الخُلق والتخلُّق ليس عصياً على الناس ، ولا يطول أمد اكتشافه ، وعلى رأي زهير بين أبي سُلمى ، كرجل عاش ثمانين عاماً ، خرج من خلالها بخلاصات تجارب طويلة وعميقة ، فإنه :
ومهما تكن عند امرئ من خليقةٍ ... وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ .
في الاتيكيت احترام ورفق وتهذيب ..
إذا كان من الممكن تحليل بعض الأخلاق إلى عواملها الأولية ، فإن الأخلاق التي تقوم عليها أصول الاتيكيت تتألف ـ فيما أرى ـ من الذوق والرفق واللباقة واحترام الذات والآخر والتهذيب وسواها من محاسن الأخلاق .
فالذوق هو الشعور بالجمال ، ولا يمكن لمن يميّز بين جميل الأفعال وقبيحها ، فيما يشاهده ويلاحظه ويحسه ، إلاّ أن يتحرى في حياته جمال السلوك والتصرفات.
أما احترام الآخر فيعني الاعتراف الصادق بوجوده وقدره وأهميته ، وعدم إلحاق الأذى به أو النيل منه ، باعتباره إنساناً أولاً ، ثم بالنظر للصفات الأخرى التي تخصُّه أو تميزه ، ويلاحِظُ من يطلع على أصول الإتيكيت أن الكثير منها يقوم على هذا الأساس ، أُعني على أساس التعامل باحترام مع الآخر ، وبخاصة مع المرأة وكبير السن وصاحب المكانة .
أما القول بأن في الاتيكيت احترام للذات ؛ فسببه أن احترام الآخر ومقابلته ومعاملته بالرفق واللطف والأدب ، يقلل في معظم الأحوال من عدوان ذلك الآخر أو عصبيته أو فظاظته وغلطته نحونا ، كما أن الأدب والسلوك المهذب والرقة والرفق من أكثر ما يستميل الناس ويكسبنا ودّهم ، فكأننا بسلوكنا هذا نجلب الاحترام لذواتنا ، في نفس الوقت الذي نُضفيهِ على الآخرين.
الاتيكيت واللباقة
أما بشأن اللباقة ، فيبدو أنها مَلَكَةٌ يحوزها أُناس دون آخرين ، بل يتفاوت مقدارها بين من يحوزونها ، إنها نوع من الحسِّ الاجتماعي ، فيه قدر من التنبّه والملاحظة ، والقدرة على فهم مختلف المواقف الاجتماعية والتعامل معها بفطنة وسرعة وعفوية ، تضمن مراعاة مشاعر الآخرين ، والتخلص مـن المآزق بِخفّة ، والتصرف على نحو لائق ومهذب يقبله الناس ، واللباقة وإن كانت (مَلَكةً) غير أن أصول الاتيكيت تسهم في اكتسابها ، بما تضعه من ارشاداتٍ للتصرف الأفضل في مختلف الحالات والمواقف .
واخيراً
لست أعرف حقيقة إذا كان المهتمون بأصول الاتيكيت يضعون القواعد للتعامل مع كل جديد ، كالتعامل مثلاً مع الهواتف الخلوية في الاتصال والاستقبال والاستعمال ، والتعامل كذلك مع مواقع التواصل الاجتماعي بالمشاركة والتعليق والرد وإبداء الإعجاب وما الى ذلك . حيث أن كل هذه الوسائل التي باتت واسعة الاستخدام في حياتنا اليومية ، صارت تحتاج الى أصول محددة متعارف عليها لتحكمها ، لكي يكون ثمة ذوق واحترام في التعامل معها ، أو بتعبير أصح : للتعامل مع الناس من خلالها .
إبراهيم كشت
0 التعليقات:
إرسال تعليق