ابراهيم كشت- أُقرّ وأعترف ابتداءً بأني رجلٌ متشائم بطبعي ، وبأن تشاؤمي لا يقتصر أحياناً على رؤية الجزء الفارغ من الكأس ، بل يتعدى ذلك الى رؤية الكأس فارغة كلها ولو كان نصفها مملوءاً...! أو ربما الاعتقاد بأنها ستنكسر ويتطاير زجاجها ويجرح من يقترب منه ...! ولعل هذا التشاؤم الفطري الموروث هو ما دفعني للبحث في طبيعة التفاؤل والتشاؤم من خلال سؤال محوريّ مهم هو : أيهما أقرب موضوعياً الى الحقيقة بوجه عام ، التفاؤل أم التشاؤم ، الأمل أم اليأس ، التطيّر أم الاستبشار .... ؟
* ما هو التفاؤل ؟
التفاؤل ميلٌ أو استعداد نفسي للنظر بإيجابية وأمل إلى الحاضر والمستقبل ، وهو موقف تجاه الحياة ، أو حيال الحقائق والوقائع ، يميل إلى التركيز على الجوانب المُشرقــــــة ، وتوقع الأفضل ، والإيمان بإمكانية التغيير ، والثقة بأن الإنسان سيد مصيره إلى حد بعيد ، وإنه يمكنه بإرادته السيطرة على كثير من شؤونه ، وشؤون البيئة المحيطة به 0
* أي عمل أو مشروع يحتاج الى أمل بتحقُقِ نتيجته الإيجابية :
إنَّ أي مشروع أو عمل أو خطوة يقوم بها الإنسان على أي صعيد تحكُمُهُ عوامل موضوعية وأخرى ذاتية ، ويمتزج فيه الذاتي بالموضوعي امتزاجاً يصعب وربما يتعذر أحياناً فصله أو اكتشافه أو الوقوف عليه بدقة ، وقد يكون من أهم أهداف البحث العلمي والتجربة في شتى العلوم ، التَّمكُن من الحكم على الأمور من خلال العوامل الموضوعية ، وهذا أيضاً هدف مهم من أهداف التخطيط ودراسات الجدوى في مجال المال والأعمال والإدارة 0 لكن كل ذلك لا يقلل من أهمية العوامل الذاتية في تحقيق النجاح في أي منحى من مناحي الحياة ، لأن أيَّ عمل أو مشروع أو إبداع يحتاج إلى أمل في أن النتيجة سوف تتحقق ، ويحتاج إلـى حدود دنيا من المبادرة والإيجابية والحماس ، وإلى جوانب معنوية متعددة أخرى 0 ولاسيما أن الإنسان يبدأ بتكوين اتجاه وموقف حيال الأشياء والأحياء والوقائع بعواطفه وضمن ما يحبُّ وما يكرهُ ، ثم يشرعُ بحشد الأسباب والمبررات العقلانية التي تدعم موقفه الوجداني منطقياً .
* لو لم يكن المبدعون والمصلحون متفائلين لما أنجزوا شيئاً :
إن مما يدعم ويقوي فكرة أهمية التفاؤل وجدواه ، معرفتنا أن المتميِّزين ممن أفادوا البشرية عبر تاريخها الطويل ، وكانوا سبباً في تطويرها وتقدمها وتحسين جودة ومستوى معيشتها ، سواء أكانوا قادة أم مصلحين أم مخترعين ، هم من المتفائلين الذين اعتقدوا بإمكانية التغيير للأحسن ، وآمنوا بالقدرة على التحكّم بالبيئة الاجتماعية والطبيعية ، فلو كان هؤلاء متشائمين يعتقدون بأنه ليس بالإمكان أحسن مما كان ، أو يؤمنون باستحالة التغيير وتعذّر التطوير ، إذن لما غيروا ولا قادوا إلى التقدم ، ولا حققوا نتيجة ، ولا حوّلوا العلم إلى تكنولوجيا ، فهم فيما حققــــــوه بذلوا وحاولوا وفشلوا ، لكن أملهم ، وإيمانهم بإرادتهم وإرادة من حولهم ، والقناعـة بإمكانية الوصول للأفضل دائماً ، حقق لهم الإنجازات ، ودفعهم لبلوغ أهدافهم ، أي أن التفاؤل كان مـــــن أهم عوامل نجاحهم .
* التفاؤل بوجه عام أقرب الى الحقيقة من التشاؤم :
نعم ، التفاؤل بوجه عام أقرب إلى الحقيقة من التشاؤم ، لأن الحياة البشرية تسير باستمرار نحو الأفضل (بغض النظر عما يقوله الذين يتغنّون بالماضي لأسباب نفسية) ، فحياة البشرية بوجه عام في لحظة من الزمن أفضل عادة مما كانت عليه في حقبة سلفت ، فيما عدا التذبذب الذي لا يقاس عليه ، فهــــــي أفضل على المستوى الصحي ، ومقدار التحكّم بالطبيعة والظروف ، وعلى المستوى الاقتصادي ، ومستوى الوعي والمعرفة ، وعلى مستوى الحريات وكرامة الإنسان والديموقراطية ، وأفضل على مستوى تعدد وتزايد الخيارات المتاحة للأفراد ، وهذا أمرٌ تجزم به الأرقام والدراسات والإحصاءات ، ولا ينقضُهُ الحَنينُ إلـى الماضي ونسيان التجارب السلبية ، والاعتقاد بأن الأمس كان أفضل 0
* المتفائلون أكثر سَواءً وسعادة ونجاحاً :
أضف إلى ما تقدم من الأسباب التي تؤيد تبني التفاؤل كفلسفة حياة ، ومنهج تفكير ، وموقفٍ من الوجود ، أن نَقيضَهُ ـ أي التشاؤم ـ يرتبط بالأمراض النفسية في كثير من الحالات ، فمن أعراض الكآبة مثلاً النظرة السوداء إلـى الحياة وغياب الأمل بالمستقل 0 ومن جوهر القلق المَرَضْي وماهيته ، أن يتوقع الإنسان شراً وشيكاً في المستقبل يبعث فيه التوتر وعدم الارتياح باستمرار 00 بينما يرتبط التفاؤل عادة بالشخصيات المتوازنة 0 ويعتبره الباحثون أحد مقومات الشخصية القيادية ، وشرطاً من شروط النجاح ، إضافة إلى أن المتفائلين هم الأكثر سعادة في العادة ، وهم الأكثر قبولاً مـن طرف المجتمع ، لأنهم لا يُشيعونَ فيمن حولهم السوداوية والبؤس والخوف، بل يضفون على الآخرين جواً من الإيجابية والأمل والثقة 0
* تحليل التفاؤل والتشاؤم إلى عواملهما الأولية :
يرى الدكتور " مارتن سليجمان " في كتابه (تعلّم التفاؤل)، أن التفسير المتفائل للأحداث والوقائع يعتبر من العناصر الأساسية في التفكير الإيجابي ، وفي تحليله لطبيعة تفكير كل من المتفائل والمتشائم يذهب الى أن المتفائل يعتقد أن أسباب الأحداث السيئة مؤقتة وستزول ، بينما يعتقد المتشائم أنها أسباب دائمة ولن تزول ، لذلك تجد المتشائم يتعامل مـع الفشل والأحداث السيئة باستخدام عبارات مثل (دائماً) و(أبداً) ، بينما يستخدم المتفائل لوصف مثل تلك الأحداث عبارات مثل (أحياناً) و(مؤخراً) .
ومن جهة أخرى ، فإن المتفائلين ينظرون إلى الأحداث السعيدة على أنها أحداث لها أسباب دائمة ، كما أنهم ينسبون هذه الأسباب إلى خصائص شخصيتهم وسماتهم . بينما يفسر المتشائمون الأحداث السعيدة بأسباب مؤقتة كالحظ والمزاج وما إلى ذلك . علماً بأن المتشائمين الذين يفسرون الفشل والأحداث السيئة بنظرة شمولية ، ويفسرون الأحداث السعيدة بمحدودية ، ينهارون عادة أمام الضغوط ، وينساقـون نتيجة ذلك إلى فشل آخر جديد ، على خلاف المتفائلين تماماً .
ويعتقد الدكتور " سليجمان " أن التفاؤل أمر يمكن تعلُّمه وبناؤه واكتسابه ، ويقترح لذلك أسلوب تفنيد الأفكار المتشائمة ، فنحن ماهرون بالتفنيد وسَوْقِ مختلف الأسانيد التي تدعم دفاعاتنا ، إذا توجّهَ إلينا أي شخص بالانتقاد أو الاتهام . لكننا لا نستخدم الأسلوب ذاته في تفنيد أفكارنا المتشائمة ، مع أن ذلك ممكن ، إذا أدركنا الأفكار المتشائمة ، وقمنا بتحديدها ، ثم العمل على تفنيدها ، حيث أننا سنجد غالباً الكثير من الأسباب العقلية والواقعية التي تدحض تلك الأفكار .
* الخرافات التي ترتبط بالتفاؤل والتشاؤم :
وربما يظل الموضوع ناقصاً ، حين يتحدث المرء في أمر التفاؤل والتشاؤم ، دون أن يشير إلى الخرافات التي ترتبط بهذا الموضوع ، وأقصدُ بذلك توقُّعَ الخير والشر من خلال أشياء وأحداث وأشخاص ، بعيداً عن ربط النتيجة بالمسبب من خلال علاقة السببية المنطقية ، وذلك كالتشاؤم من طائرٍ معين ، أو من رقم ، أو من شخص ، أو التفاؤل بأيٍّ منها ، وكل هذا مجافٍ للمنطق والعلم ، بما في ذلك قصَّة النجوم والأبراج ، وبناء التوقعات المتفائلة أو المتشائمة عليها ، دون أي سببٍ علميّ مقنع يبرر هذا الربط ويفسره .
* وبعد ...
فلو أردنا أن نحكم على التفاؤل والتشاؤم كفكرتين ، بالاستناد إلى مذهب الفلاسفة البراجماتيين ، الذين يرون أن الفكرة الصادقة هي التي تعطي نتائج مفيدة في الواقع والتطبيق ، لوجدنا أن فكرة التفاؤل أكثر نفعاً ونجوعاً ، لأن نتيجتها هي الإقدام والمبادرة والبدء بالتغيير والتطوير ، كما أنها باعث على الاطمئنان الداخلي والثقة ، وبالتالي فهي الأكثر صدقاً . فهل نتفاءل بعد ذلك بالعام الجديد .... ؟
Like · · Share
0 التعليقات:
إرسال تعليق