التغزل بالذات .. ونتائجه السلبية


ابراهيم كشت - الثقة بالذات ، واحترامها ، والإحساس بالاستحقاق ، أي استحقاق ما هو أفضل دائماً، كل ذلك يقع ضمن نطاق الشعور الايجابي والضروري للتكيّف والإنجاز والفاعلية ، سواء أكنا نتحدث على مستوى الفرد أم المجتمع.

أما تضخيم الذات وتفخيمها والتّغزّل فيها ، وتصوير الانجازات العادية على أنها معجزات ، والادعاء بأن مجرد القيام بدور طبيعي أو أداء مهمة واجبة مسألة خارقة تستدعي التّغنّي بالنفس والتطبيل والتزمير لها ، فهذا كله يُعمى البصر عن الحقيقة، ويبعث في الوجدان إحساساً كاذباً بالإنجاز ، وشعوراً مُضلِّلاً بالتفوق على الآخر، ويؤدي إلى إغفال النقائص وتجاوزها، بدل الوقوف عندها والعمل على تصويبها. 

وإذا كانت هذه الممارسة ، أي تضخيم الذات وإدامة التغزل فيها قائمة لدى الفرد ، فتلك مأساةٌ تُغيّب عنه الموضوعيّة ، وتُقعِدُهُ عن الفاعلية الحقيقية ، أما إذا كانت ممارسة تسود على مستوى المجتمع أو الأمة فالمأساة أكبر ، لأنها تنعكس عليها بسلبياتها ، بصفتها جماعة كبيرة من جهة ، وتنعكس على كل فرد فيها بوصفه جزءاً من الجماعة من جهة ثانية ، فتعيش ويعيش أفرادها في وَهْمٍ يقطع الصلة بالواقع والحقيقة ، ويُعْشي النظر عن واقع المجتمعات الأخرى وما بلغته وارتقت إليه ، مما يحول دون التنمية الفعلية والتطور الحقيقي . 

الثقة بالذات شعور ايجابي قوامه إيمان الفرد بما لديه من (موارد معنوية) إذا جاز التعبير ، وأُعني بالموارد كل ما يملكه المرء من مهارات وقدرات وخبرات ومعارف وطاقات، وما لديه من دوافع حافزة على الإنجاز والتقدم ، إضافة لما لديه من رصيد من السمعة والعلاقات الايجابية والإنجازات المتراكمة . أما على مستوى المجتمعات فالثقة بالذات هي أيضاً إيمان المجتمع بموارده المادية والبشرية والمعنوية ، وبقدرته على التخطيط والعمل والإنتاج والنمو والتقدم . أما الإدعاء والوهم ، وتصوير الأمور على غير واقعها وحقيقتها، والإحساس بالتفوق ، وإدامة التغزّل بالذات والتغني بالإنجازات ، فهي نقيض الثقة ، أو لنقل إن مصدرها هو تضعضع الثقة بالذات وتدني مستواها . لذلك تجد أن مجتمعات الدول النامية هي الأكثر نفخاً بذاتها وواقعها وإنجازاتها وتاريخها وحاضرها ، حتى أن عملاً عادياً ربما لا يعدو أن يكون أداءً لواجب أو تنفيذاً لمهمة عادية يحاط بضجّة تفوق ما قد يناله هبوط مركبة على المريخ أو على أحد أقمار المشتري ، أو يفوق ما ناله اختراع برامج (ويندوز) التي أثرت في وجه وشكل الحياة البشرية كلها .

وربما كان تضخيم الذات واستمرار التغزل بها على مستوى المجتمع على نمط فخر الشاعر القديم بقومه من خلال استخدام كل ضروب المبالغة ، واستعمال ملكته الشعرية في الخيال والبيان ، أقول ربما كان ذلك أخفّ وطْأةً في ظل الجُدُر الحديدية التي كانت تُشيّد لمنع انتقال المعلومة وانتشار الحقيقة ووصول وجهة النظر الأخرى ، أما بعد زوال قيود وحدود انتقال المعلومات بفعل الفضائيات والانترنت والخلويات وأدوات العولمة ، فلن تكون نتائج تضخيم الذات، وبخاصة على الأمد الطويل ، إلا مزيداً من الوهم ، وإحساساً غير صادق بالإنجاز وبالتفوق على الآخر وسبقه في كل شيء ، إحساساً تظهر الأرقام والحقائق والوقائع زيفه ... ولا يؤدي في النهاية لتقدُّم فعلي ، بقدر ما يؤدي إلى الإحباط والخيبة عند كل لحظة مواجهة للحقيقة .

إن من نتائج تضخيم الذات وكثرة التغزل فيها على مستوى المجتمع ، أن يكبر حجم الإحباط لدى كثير من الأفراد الذين يتعرضون لخيبة أمل من أي نوع ، أو يطلّعون نتيجة السفر أو الفضائيات أو الانترنت على إنجازاتٍ علمية واقتصادية وعمرانية وتنموية لدى الآخر ، فيؤدي هذا الإحباط الواسع إلى نتيجة عكسية ، أي إلى عكس ما يوحي به التغزّل بالذات ، ويصبح منهجهم عدم الإيمان بشيء يخصّ هويتهم ومجتمعهم ، ويغدون من ذوي الميل الدائم نحو انتقاد كل شيء ، حتى لو كان ايجابياً يستحق التشجيع ولا يستأهلُ الانتقاد . وكم أصبح هذا النمط في النظر للأشياء سائداً وشائعاً .. انتقاد مستمر لكل كبيرة وصغيرة ، في كل حديث ومجلس ومقام ومقال . انتقاد لمجرد الانتقاد ، دون أدنى موضوعية ، ودون تقديم بديل ، أنها ممارسة الانتقاد لذاته ، تعبيراً لا شعورياً عن فقدان الثقة والأمل ، وفقدان الإيمان بالطاقات والقدرات التي كان ينظُر إليها بمنظار التضخيم والتفخيم ، ثم تبين أنها أقلّ من ذلك بكثير حين خضعت لمقياس الواقع ومعيار الحقيقة .

مرة أخرى ، الثقة بالذات ، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع ، تستدعي معرفة حقيقية وإيماناً فعلياً بالقدرات والإمكانات والموارد المتاحة ، أما الادعاء والمبالغة والتضخيم والتغزّل بالنفس ، فلا يمكن أن تكون منطلقاً لإنجاز حقيقي ، أو باعثاً على تقدم فعلي .



هل أعجبك الموضوع ؟

0 التعليقات:

إرسال تعليق