من العرش... إلى سكين الجيلوتين..!

                      

 لم يكن الفتى قد أدرك من أمر نفسه شيئاً.. وكان في الأعماق منه فتى هادئا عفا, يجهل من أمور الحياة والحب كل شيء. ولم يكن ـ وهو ولي العهد ـ بالذي يستطيع أن يغامر أو يعشق, أو ينال شيئا من المسرات الدافئة والألوان الباهرة في قصر جده الملك لويس الخامس عشر. فقد عاش لويس الصغير في جناحه الخاص, يقرأ الأدب والعلم والدين, ويسبح في الشعر والظلال والتأملات, ولا ينغمس أبدا فيما يجري كل ليلة في القصر الكبير.

 وفوجيء لويس الصغير ذات يوم بجده الشيخ يستدعيه, ثم يقول له إنه حدد اليوم الذي سيصبح فيه زوجا لعروس اختارها له, هي ماري أنطوانيت, التي كانت قد غادرت بالفعل فيينا, من قصر والدتها الإمبراطورة ماريا تريزا, في الطريق إلى باريس.

  وخرج الفتى من حجرة جده وهو غارق في الحيرة! إلى أذنيه.. وظل ينتظر ذلك اليوم.. وهو لايعرف أي شيء عن عروسه المقبلة. أما الفتاة, فعندما غادرت قصر والدتها الإمبراطورة, كان يعمر رأسها أمل ضخم في مستقبل باهر, يوم تجلس على عرش فرنسا.. بجانب الزوج الشاب. عندما ترفعه وفاة لويس الخامس عشر إلى مصاف الملوك.

 واستقبلتها باريس كما لم تستقبل أحدا قبل ذلك قط. وازينت العاصمة في المساء زينة باهرة رائعة مترفة, لم تعرفها سوى أيام لويس الكبير, وأنفقت من أجلها الخزانة من دم الشعب مابلغ مقداره عشرين مليونا من الفرنكات في أول ليلة من ليالي الاحتفال.

 انتهى اليوم الخامس عشر من أيام الزفاف, وأطلقت في تلك الليلة الألعاب النارية كأجمل وأبهى ما تكون, وراحت ماري تتابعها في سرحة من خلال نافذتها المطلة على الميدان أمام القصر. وفجأة دوت في جنبات الميدان صرخات صاخبة, أخرجتها من سرحتها الطويلة, وفتحت عينيها على نار تندلع في النصب المعلقة عليها المشاعل وتسري فيها في هدير مجنون. وعم الفزع الألوف من الناس المكتظين, واستمرت الصرخات تعلو, وتصاعدت زفرات المنكوبين ملتهبة وهم يتساقطون اختناقا من دخان الحريق الذي انتشر في صخب وعنفوان.

  وأغمضت العروس عينيها, وقد عمرت رأسها صورة مفزعة للزواج الرهيب الذي انتهت حفلاته الباهرة بين النواح والعويل والصرخات, كأنما هي نذير سوء لها, ولحياتها الزوجية التي لم تكد تبدأ بعد.

  وفي الحق, أن ماري لم تعرف لأمد طويل نعمة الزواج على الإطلاق فالزوج كان مشغولا باستمرار مع جده الذي لم تطل به الحياة بعد ذلك طويلا, حتى أنها لم تحس برونق اليوم الذي سجدت فيه إلى جوار زوجها, وهما يدعوان الله متوسلين: (اللهم أرشدنا وخذ بيدنا, إننا أصغر سنا من أن نحكم). فقد كان لويس الخامس عشر قد ودع الحياة, فأسرع الرسل إلى جناحهما ينادون بهما ملكين على فرنسا.

  أبداً, لم تحس ماري برونق ذلك اليوم قط. وماكانت ـ لو أرادت ـ لتحسه وهي تشهد النذير المشئوم يتكرر مرة أخرى. فلا تكاد تنقضي ثلاث ساعات على تنصيب لويس السادس عشر ملكا, حتى يقفز قصر فرساي فرارا من الطاعون الذي تفشى في أنحائه وجثم على صدر باريس, ولم يبق في القصر بجوار جثة الملك الراحل سوى نفر من أحط الكهنة قدرا وطائفة من الخدم, كانوا هم وحدهم الذين ودعوا الملكين الجديدين وهما يهربان من القصر.

 والواقع أن تلك النذر المتتابعة السوداء قد ملأت قلب ماري رعبا وهي لاتدرك إلى أين يقودها المستقبل. ولكنها مع ذلك لم تكن بالفتاة التي يمكن أن تعيش كأي امرأة فحسب. فما أن دخلت البلاط الفرنسي عروسا لولي العهد, حتى جعلت زوجها تابعا لها وفردا من أفراد حاشيتها, فبعد أن دوت تلك الصيحة القديمة (مات الملك, يحيا الملك) تقدمت هي على زوجها وتولت عنه حكم الشعب الفرنسي, وأصبحت منذ ذلك الحين القوة المحركة لسياسة فرنسا والعامل الأكبر في وقوع ما ألم بها من خطوب.

 وفي الحق, أن لويس لم يكن يهتم بكل ذلك. فقد كان يحب الملكة حبا مفعما بالحرارة والنشوة والحياة. وقد جعله ذلك لايبخل عليها بشيء قط. وهو لايرد لها طلبا أبدا, حتى شئون الدولة نفسها, تركها تتدخل في كل كبيرة وصغيرة منها, تعين وتعزل وترقي أكبر الموظفين حتى الوزراء والسفراء, كل ذلك وفق مشيئتها هي وطبقا لأهوائها, حتى أدرك الشعب كله أن الملكة قد أصبحت كل شيء.. أما الملك فلم يعد شيئا على الإطلاق.

  ولم يكن غريبا أن تجد الملكة السبيل لتعيش حياة المتعة النشوانة وإن كانت قد استطاعت أن تحافظ غالبا على المظهر الرسمي للعفاف.

 وعاشت باريس سنوات وليس لها من حديث سوى أنباء الملكة الأجنبية ـ كما كانوا يسمون ماري أنطوانيت دائما ـ وبدأ صوت الشعب يعلو من الهمس ليتحول إلى ألسنة حداد حول تبذير الملكة واستهتارها. وكان الشعب في ذلك الوقت يجوع ليتخم الآخرون. ولكن ماري لم تحس أبدا بجوع الشعب, ولا عملت على انتشاله من وهدته, بل كان همها أن تبعثر المال هنا وهناك لحساب ملابسها وملاهيها وحفلات الصيد والرقص التي لاتنتهي. وبدأ الماء في القدر يغلي.

  غير أن بخارالغليان لم ينبه الملكة إلى النهاية المحتومة التي ترسمها لنفسها وللمملكة كلها بتصرفاتها المخبولة الشائنة, فما استمعت إلى نصح قط, ولا حاولت قبول مشورة على الإطلاق. بل أخذت تنزلق إلى الحضيض, حاملة معها مستقبل ملك طيب ضعيف.

          وبدأ أفراد الشعب يجدون من الجوع مايشجعهم على ترتيل الأغاني عن الملكة الأجنبية وعبثها, والتي استمرت تستغل طيبة ذلك الزوج الذي عاش حياته عديم الثقة بنفسه, سهل الانقياد لغيره, آخذا بكل يد تمتد له, متقلبا تبعا لإرادة كل ناصح مشير.

          كانت الباخرة لاتزال تسير, في خضم متلاطم الأمواج, صاخب مجنون. وكان أشراف ذلك الزمان لايسمون الشعوب بغير الرعاع والدهماء والصعاليك. وكانوا قد استبدوا بكل شيء, وأمعنوا في الكبرياء والتعالي واحتقار الشعب.

          ولم تكن ماري أنطوانيت بأقل من هؤلاء الأشراف تعاليا ونفورا من الشعب. فلم ينتبهوا جميعا إلى الهاوية التي تسير إليها فرنسا. بطون جائعة وخزانة خاوية, وضرائب تكاد تقصم الظهور, اضطر معها الأفراد إلى خوض غمرات حياة من السلب والقتل, تعبث بالحياة والموت, وتملأ ليالي باريس صخبا ورعبا.

 وكان لابد للبارود أن ينفجر, وأن تعود نذر الشؤم من جديد. وما من شك في أن الملك والملكة كانا مسئولين معا عن كثير مما حدث بعد. وكانت الأزمة المالية التي أخذت بخناق الشعب قد أودت بكل القليل الباقي من الحب والاحترام للملكة. واستمرت الأزمة المالية في استفحالها. واستمر الملك في انحنائه لرغبات زوجته وتصرفاتها التي لم تعمل أبدا لصالح الشعب. وبدأت المجاعة تأخذ تماما بخناق باريس. ومن خلال الجوع كان الشعب يستمع في جنون إلى أنباء حياة البذخ التي تعيشها الملكة والملك في فرساي. والحفلات والمآدب التي تقام لفرقة الفلاندرز التي أدرك الشعب أنها من وحي الملكة الأجنبية لتخويف الجماهير التي كانت قد أعلنتها ثورة بيضاء في سبيل الإصلاح.

  وسمع الشعب عن آخر حفلات فرساي. حيث كان الضباط يشربون نخب الملكين, ولم يجر نخب الأمة على لسان واحد منهم قط.

 وأدرك الشعب أن الملكة قد أعلنتها حربا سافرة عليه, وأشعلت أنباء الحفلات ـ التي ألقى فيها الضباط بشارة الثورة المثلثة الألوان إلى الأرض ووطأوها بأقدامهم ـ خواطر الجماهير الهائجة.. التي كان الجوع قد أنهكها وحطم منها القوى جميعا.

  وازدحم الناس حول المخابز, ولم يجدوا كسرة من الخبز.. وصاح بهم صائح: إلى فرساي أيتها النساء.. إلى فرساي!

 وانطلقت النساء تتقدمهن فتاة تحمل الطنبور وهن وراءها يصحن:

  ـ خبز.. خبز.. لنعلم الرجال الشجاعة. وإذا لم يكن في وسعهم حمايتنا فلنحم أنفسنا.. إلى فرساي.. إلى فرساي.

  وهاجمت الجماهير القصر. واغتصبت غرفة الملكة وأخذت تطعن فراشها بالرماح وتهتف:

    ـ تسقط النمساوية الخائنة.

   إلى سكين الجيلوتين

  والحق.. أن صبر الشعب على الفساد والتبذير والسرف المجنون كان قد بلغ منه الحلقوم. واستمرت الثورة مشبوبة حانقة.. واستمرت الملكة أيضا في عنادها وتكبرها لاتلين مع الثورة مجرجرة في أذيالها الملك المسكين. ومامن شك أن الفرص قد أتيحت كثيرا للملك لأن يثوب إلى الرشد. وكان هو في أعماقه مستعداً لملاينة الثورة إلى أقصى حد. وظهر منه ما أكد ذلك حينما تقدم منه أحد المتظاهرين بقلنسوته الحمراء شعار الثورة وهو يرفعها على سنان رمحه, فتناولها منه الملك ووضعها على رأسه.

   ولكن الملكة عادت تحطم شخصية لويس بحمله على إرسال الكتب إلى خارج البلاد في طلب النجدة. ووقعت الرسائل في يد الشعب فكانت الطامة من جديد.

  ولم يكن بد من أن تثور الجماهير من جديد. وتقبض على الملكين ليودعا أحد أبراج سجن التاميل

   وكان لابد للأمر من نهاية.. وكانت بداية النهاية هي إعدام الملك الشقي تحت سكين الجيلوتين.. ولتساق الملكة بعد ذلك إلى قاعة محكمة الثورة.. ليصدر عليها حكم الموت تحت سكين المقصلة.

مجلة العربي



هل أعجبك الموضوع ؟

0 التعليقات:

إرسال تعليق