إبراهيم كشت- لكلمة «مرونة» فـي أصل اللغة مدلـولٌ رائع، يبعثُ على التأمُّل؛ حيث تشير المعاجم اللغوية إلى أن المرونـة تعني: «اللين في صَلابةٍ ..!»، إذن فهي حالة يلتقي فيها ضِدّان عند نقطة واحدة، يجتمعان في زمان ومكان واحد، أو فـي تفكير أو موقف أو سلوك واحد. فرغم أن اللين ضِدُّ الصلابة، فإنهما إذ يلتقيان في حالة «المرونة» ، فإنما يلتقيان لقاءَ تجاذب واندماج، وليس لقاء صراع ونزاع دَرَجَتْ عليه الأَضداد..!
ولأن القوانين التي تحكم المواد والأجسام ، كثيراً ما تنطبق على حياة البشر ، أو كثيراً ما تصلح مادة للتشبيه تساعد على تفهّم القوانين التي تحكم السلوك الإنساني ، فلا أحسبُ أن ثمة ما يمنع من الاستعانة بمفاهيم علم الفيزياء ، ما دامت تُسهم في جلاء صورة جوانب من مشاعرنا وأفكارنا ومواقفنا وتصرفاتنا فيما يتعلق بمفهـوم المرونـة . وعلى ذلك ، فالمرونـة بمعناها الفيزيائي : خاصية فـي المادة ، تتمثل في ميلها لاستعادة حجمها وشكلها وحالتها الأصلية ، بعد زوال القوة المؤثرة فيها ، أي بعد زوال المطّ أو الضغط أو الليّ الذي تعرضت له . إذن ، ففي الجسم المَرِن استعداد يجعله قابلاً لتعديل وضعـه ، لكي لا ينقطع أو ينهرس ، ولكي يستمر ، ويقوم بدوره النافع في الحياة ، لكن دون أن يفقد خواصّه وصفاته ، أو يفقد القدرة على استعادة حالته الأولى ، أو يحدث فيه تشويـه ، أو يفقد (شخصيته) إن جـاز التعبير .
المرونة قدرة على التعديل ..
وليست حالة ميوعة وتقلّب :
يَحْسَبُ البعض أن المرونة نوع مـن الميوعة ، أو التقلُّب ، أو الانقياد ، أو الانصهار ، أو الذوبان ، أو اتخاذ المـرء شكل القالب الذي يوضع فيه (كما هو حال السوائل) ، وهـذه نظرة قاصرة ، يفنِّدها حتى المعنى اللغوي للكلمة ، فالمرونة لينٌ في صلابة ، ومن الخطأ أن ننظر إلى جانبٍ منها ، ونتغاضى عن الآخر ، أي أن نرى ما فيها من لينٍ ، ونغفل عن جانب الصَّلابة . لأن المرونة حالة تمتزج فيها مقادير متجانسة من الليونة والصلابة معاً ، تحقق قدرةً على التكيف الإيجابي والتأقلم والتواؤم ، إنها قدرة على التعديل في الموقف وفي السلوك بهدف الاستجابة لمقتضيات الظروف المحيطة ، وفقاً لمتطلبات البيئة الطبيعية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية والمعلوماتية ، كما أنها قابليةٌ لتعديل الأفكار ، وتقبّل الجديد ، وتجاوز الجمود ، كل ذلك إذا ظهرت حقائق علمية أو منطقية أو موضوعية ، أو نتائج واقعية تفرض مثل هذا التعديل .
وتذكر مراجع علم النفس التي تبحث في مواضيع (السَّواء واللاسواء) أن المرونة من أكبر مؤشرات الصحة النفسيّة ، حيث أن المرضى النفسيين يتّسمون غالباً بالتصلبُّ والنمطيّة والأُحادية . وتذكر هذه المراجع أيضاً أن المرونة هي أساس التكيّف ، وأن التكيّف لــــه أربعة مقتضيات : أولها تغيير ما يقبل التغيير ويجب تغييره ، وثانيها تقبل ما لا يجوز تغييره ، وثالثها التواؤم مع ما لا يمكن تغييره ، ورابعها التمييز بين الحالات الثلاث السابقة .
مظاهر غياب المرونة :
ويتجلّى غياب المرونة في أكثر مظاهره وضوحاً ، في حالات متعددة منها :
ـ تصلّب الذهن ، وجمود الأفكار : حيث يميل التفكير في هذه الحالة إلى القَطْعيَّةَ والحديّة (إما ـ أو) ، كما يميل إلى استخدام الأفكار المسبقة ، والمعايير الجاهزة ، والقوالب الجامدة في فهم الوجود ، والنظر إلى المشاكل ، وفي الحكم على الأفكار والمذاهب والفلسفات والناس والأشياء.
التعصّب : بمعنى الميل الأعمى لمبادئ أو أفكار أو رأي أو قوم أو فئة أو حزب ، أو لغير ذلك ، ميلاً عاطفياً انفعالياً يجعل صاحبــــه يَصمُّ أذنيه ، ويغمض عينيه ، عـن كل السلبيات القائمة في موضوع هذا الميل ، وعن كل ما قد يقلل من انحيازه ، أو يناقض مبرراته، أو يفنّد أسبابه .
ـ العناد : ويعني مخالفة الشخص للحق رغـم أنه يعرفه ، أي الإصرار على الخطأ لمجرد المكابرة ، التي تشير في المحصلة إلى عدم القدرة على تعديل التفكير أو السلوك .
ـ التفكير المنغلق : وهو التفكير الذي لا يستطيع تصور وجود الرأي الآخر ، أو فهم نسبية الحقيقة ، وقابلية كل رأي للصواب والخطأ .
الذين يفتقدون المرونة ..
لا يفهمون طبيعة الحياة ..!
إن الذين يفتقدون إلى المرونة ، ممن لا يستطيعون تعديل أفكارهم ومواقفهم وتصرفاتهم عندما تَجِدُّ أسباب حقيقية وموضوعية تستوجب ذلك ، لا يدركون قاعدة الحياة التي تقول : إن كل شيء يتغيّر إلاّ قانون التغيّر ، ولا يعلمون أن الأساس في حياة الأشخاص والمجتمعات والمؤسسات هو التغيّر وليس الثبات . وربما لا يعرفون أن الخرافة والأساطير تقوم على أساس التصلُّب ؛ لكونها مقولات نهائية لا تقبل التعديل ، بينما يقوم العلم على أساس المرونة لأن نظرياته وقواعده وقوانينه ونتائج دراسته قابلة للتغيير . وربما لا يعلمون أيضاً أن الحياة منذ ظهرت على وجه الأرض قامت على أن أساس انتخابٍ طبيعيّ قاسٍ ، مقتضاه أن من يمتلك المرونة التي يتطلبها التكيف مع البيئة يستمر ، ومن يفتقدها ينقرض ..!
إن الشجرة لا تفقد (شَجَريّتها) ، ولا تتنازل عن خُضرتها ، وقدرتها على مدّ الظلّ ، وإطلاق الزهر ، وحمل الثمر ، وانتاج البذور والفسائل ، وبثّ الجمال ، ولا تتخلى عن نزوعها إلى النمو والتفرّع والعطاء ، إنها لا تفعل شيئاً مـن ذلك حين تميل جذوعها للعواصف ذات اليمين أو ذات الشمال ، فهي تميل لكي تحافظ على وجودها وعطائها وخصائصها ، لكنها لا تنحني ، وتلكم هـي الليونة في صلابة ... تلكم هي المرونة . ولو لم تكن الشجرة واثقة من أن جذورها ضاربة في الأرض ، وأن فروعها لَدِنَةٌ وقوية في آن واحد ، لما ملكت أي جرأة على ممارسة تلك المرونة .
والذين يملكون المرونة بمعناها المتقدم ، يدركون أن الوعل الذي ناطح الصخرة انكسرت قرونه ، ولو أنه التفَّ حولها ومضى لنال السلامة . ويدركون أن العين لا تقاوم المخرز ، لكنها تستطيع أن تتقي شره ، وتبقى مُبصرة 0 ويفهمون رأي الباحثين في الاستراتيجية الذين يقولون : (( أن تُعدّلَ استراتيجيتك وتبقى ، خير من أن لا تعدل استراتيجيتك ولا تبقى )) . ويدركون أن غياب المرونة يؤدي لإبقاء ما كان على ما كان ، مما يحول دون التطور ، ويؤدي إلى الجمود والتعصب والعناد ، وكل هذه تبعث على الصراعات والتطرف وأحياناً الإرهاب .
إذن ، فالمرونة حكمة وفطنة ومهارة ، وفهم لطبائع الأشياء ، واستيعابٌ لسنن الحياة ، وإدراكٌ لضرورات التكيّف ، وهي الأكثر تعبيراً عن الصحة النفسية ، والأقرب إلى التسامح ، والأبعد عـن التعقيد ، والأقـدر على تحقيق التطور ، والأدعى إلى الاستمرار والعطاء ، وهي ليست حاجة بالنسبة للفرد وحسب ، ولكنها ضرورة للمجتمعات والمؤسسات والدول كذلك .
0 التعليقات:
إرسال تعليق