مصطفى الجوزو- يستعمل العرب اليوم كلمة الجنس والنسبة إليها: الجنسيّ، والمصدر الصناعي المشتقّ منها: الجنسيّة، استعمالاتٍ ملتبسة؛ فالجنس عندهم يعني مجموعة شاملة ذات صفات مشتركة: الجنس البشريّ، والجنس الحيوانيّ، والجنس النباتيّ.. إلخ. وقد يكونون أقلّ تعميمًا فيعني الجنس عندهم أحد مكوِّنَي المجتمع البشريّ: الجنس المذكّر، والجنس المؤنّث؛ أو يعنون مجموعة بشريّة محدودة مشتركة الصفات: الجنس الساميّ، الجنس الآريّ، إلخ. وقد يستعملونه بمعنى العلاقة العضويّة بين الرجل والمرأة: الجنس المحلَّل والجنس المحرّم، والعلاقات الجنسيّة، والقصص الجنسيّة.. إلخ، بل قد يعنون به الانتساب إلى دولة ما: الجنسيّة الكويتيّة، الجنسيّة اللبنانيّة.. إلخ.
في الأيام القليلة الماضية فاجأتنا محطات التلفاز بما يوحي أنّه نقْلٌ عن وزارة الصحّة اللبنانيّة (ولموظّفي الدولة أعاجيب في الترجمة)، إذ أوردت خبرًا عمّا سمّته الأدوية الجنيسيّة! وفَهِمنا منها أنّ تلك ترجمة للمصطلح الفرنسيّ: médicament générique والإنجليزيّ: generic medicament، ومعناه: الدواء الواسع الاستعمال بين الناس. والظاهر أنّ من ترجم المصطلح أراد تحاشي مصطلح الأدوية الجنسيّة الذي يفهم منه، عادة، الأدوية المنشِّطة للفحولة، فاخترع تلك الصيغة غير المقبولة.
والسبب في تعدّد معاني كلمة جنس عند المتأخرين ليس اتّساع مجالها المعنويّ فحسب، بل تعدّد المترجمين واختلاف دولهم، وعدم نظر بعضهم، أحيانًا، في ترجمات بعض؛ والأهمّ من ذلك عدم تدقيق بعضهم في أصل الكلمة المترجمة. ويجب أن نلحظ أنّ كلمة جنس لم ترد في القرآن الكريم ولا في الحديث الشريف، ولا حتّى في الشعر القديم، في ما نعلم، وهذا يرجح أنّها كلمة مُحْدَثة، ونرجّح أنّها مأخوذة من اليونانيّة genesis (جَنَسِيس) التي نجد في معجم روبير الفرنسيّ - وعليه أكثر تعويلنا في معاني الألفاظ الفرنسيّة وأصولها اللاتينيّة واليونانيّة - أنّ معناها: الولادة أو النسل أو السلالة، وأنّها صارت في اللاتينيّة gens (جَنْس)، وتطورت في اللغات الأوربية الحديثة إلى ألفاظ قريبة من ذلك، وأصبحت تعني المجموعة من الكائنات ذات الصفات المشتركة. ويفهم من المعاجم العربيّة أنّ الجنس هو السلالة ذات الصفات المشتركة كالبشر والإبل والخيل، ويفهم الشيء نفسه من كلام المحدّثين، وليس من الحديث الشريف نفسه؛ لكنّ هؤلاء، وبخاصّة متأخرّيهم، يوحون أنّ الجنس يشمل، مجازًا، المأكولات كالقمح والشعير، والمعادن كالفضّة والذهب، ويشمل حتّى الكلام كالأَذان، وصفة الأشخاص كالشهود، وكذلك المفاهيم، كالاختلاف والأحكام، فضلًا عن طريقة العمل؛ ونجد أنّ سيبويه، مثلًا، يُدخل فيه الأساليب النحويّة والصرفيّة، وأنّ الجاحظ يدخل فيه الأدلّة، والأحاديث، والألفاظ، والتراكيب، والبلاغات، والمهن، والسلوك، وأنواع الكلام، والأدواء، إلخ. وذلك يعني أنهم قلّما فرقوا بين الجنس والنوع.
نعم، ذلك صحيح، لكنّه لا يسوّغ للعرب في العصور الحديثة أن يتّخذوا الكلمة ترجمة لكل تقسيم، فيوقعوا المستعمل والمتلقّي في اللبس.
ونبدأ بمصطلحي الجنس المذكّر والجنس المؤنّث، وهما مصطلحان مقبولان؛ لأنّه إذا صحّ تقديرنا في اقتباس كلمة جنس عن اليونانيّة، وتعبيرها، في تلك اللغة، عن الولادة وما ينجم عنها من تكوين اجتماعيّ، كان مصطلح الجنس المذكّر أو الجنس المؤنّث تعبيرًا عن الفرق التكوينيّ بين تينك الفئتين منذ الولادة.
ويجعلون مصطلح الجنس المعبِّر عن العلاقة العضويّة بين الذكر والأنثى ترجمة لكلمة (sexe) وليس لما يرجع إلى genesis اليونانيّة من ألفاظ. لكن كلمة sexe لا تدلّ على الجماعة المشتركة الصفات، ولا على العلاقة العضويّة بين الجنسين، بل تعني في أصلها اللاتينيّ اللذةَ والنشوة. وهنا يختلف النظر باختلاف العبارات، فقولنا: العلاقة الجنسيّة قد يصحّ إذا اعتبرنا أنها علاقة بين الجنسيّن، لكنّ قولنا الجنس مطلقًا في الدلالة على المفهوم العامّ لتلك العلاقة لا يصحّ، وكذلك نحو قولنا: قصص جنسيّة في النسبة إلى تلك العلاقة. ولعلّ الصواب أن نطلق على ذلك المفهوم مصطلح الشهوة التناسليّة، أو الشهوة مطلقًا، لأنّ الشهوة أكثر ما تستعمل للعلاقة بين الجنسين، ولأنّ تلك العلاقة، في الأصل، علاقة تناسليّة، وتسمى أعضاؤها بالأعضاء التناسليّة؛ وفي الفرنسيّة أنّ الأعضاء التناسليّة وما يترجمه بعضهم بالأعضاء الجنسيّة، إنّما هي من المترادفات. سيعترضنا، في هذا المجال، بعض الصعوبات في ترجمة مشتقّات هذه الكلمة الأجنبيّة ومعانيها المجازيّة في مختلف اللغات؛ لكنّ لكلّ لغة اشتقاقاتها ومجازاتها التي لا يمكن أن تطابق ما يقابلها في اللغات الأخرى، ولا يعدم المترجم وسيلة لترجمة تلك الاشتقاقات والمجازات بما يناسبها.
وترجموا كلمة race بالجنس أيضًا، فقالوا الجنس البشريّ، والجنس الآريّ، وما أشبه ذلك، على ما قدّمنا، علمًا أنّ تلك الكلمة مأخوذة من الإيطاليّة: razza، أي الأسرة أو الطبقة أو الفئة، ولعلّ أوفق ترجمة لها هي السلالة.
أمّا الانتساب إلى بعض الدول فلا تصحّ فيه كلمة جنس أو جنسيّة؛ والمصطلح الآخر، نعني التابعيّة، مقبول جدًّا لأنّه يدلّ على تبعيّة الإنسان لدولة معيّنة، وإنْ كان المواطن ليس تابعًا للدولة بل هو جزء منها ومن الأمّة التي تملكها وتدير شئونها. ومعروف أنّ الكلمة ترجمة لكلمة nationalité nationality، وهي من كلمة nation التي تعني الأمّة، والمصدر الصناعيّ العربيّ منها هو أُمِّيّة؛ لكنّ للأُمّيّة معاني خاصّة في العربيّة هي جهل الكتابة والقراءة، وصفة العربيّ عامّة كاتبًا كان أو غير كاتب، وفق بعض المفسّرين، ربّما تمييزًا له من اليهوديّ، ومعاني أخرى أوردها مفسّرو القرآن الكريم. فالأمّيّة لا تصلح لترجمة ذلك المصطلح الأجنبيّ. ومع قصور كلمة التابعيّة عن ترجمته بدقّة، فإنّها أصبحت مصطلحًا مفهومًا يؤدّي المعنى المراد، وإنْ جزئيًّا، ويبعد من اللبس.
والطريف أنّهم جعلوا التأميم ترجمة لمصطلح nationalisation, أي نقل ملكيّة القطاع الخاصّ أو الأجنبيّ إلى ملكيّة الدولة، وهو من الأمّة، فالترجمة مقبولة، لكنّهم يترجمون مصطلح nationalisme، أي الانتساب إلى أمّة بعينها والحماسة لها، بالقوميّة، ولا صلة لمعنى القوم بمعنى الأُمّة! ولعلّ الذي أفضى إلى تلك التجاوزات هو ما ذكرناه من تحاشي لفظ الأُميّة.
ونصل إلى معنى الدواء الواسع الاستعمال، وقد قلنا إنّ الكلمة المستعملة له مترجمة عن كلمة (générique) (generic)، وهي من أصل لاتينيّ يعني الأصل أو الشعب؛ وهذا يسمح لنا بترجمة المصطلح بعبارة الدواء الشعبيّ أو الجمهوريّ، ولا حاجة لتكلّف ترجمة غريبة هي الجنيسيّ غير المسوّغة صرفيًّا، وغير المفهومة المعنى بغير الرجوع إلى المصطلح الأجنبيّ المترجمة عنه.
كلّ ذلك ينبغي أن يكون حافزًا للموظّفين على عدم الاجتهاد في اللغة، وترك ذلك لأهل الاختصاص، وأن يكون كذلك باعثًا للاختصاصيّين أنفسهم على التحرّز في الترجمة بحيث لا تبدو الترجمات متناقضة، ولا مجافية لمعانيها الأصليّة.
---------------------------------
* أكاديمي من لبنان.
0 التعليقات:
إرسال تعليق