كان يكره شيئين. الاستعمار والاستبداد.
وكان الإنجليز يطاردونه حيثما ذهب, طاردوه في مصر, وطاردوه في إيران, وطاردوه في الهند, ثم كانوا يرحبون به عندما يزور لندن!
سافر إلى إنجلترا وألمانيا, وزار بطر سبرج والتقى القيصر, ودار بينهما حوار عابر, انتهى بطرد الأفغاني من روسيا.
ويقول المؤرخون إن شاه إيران عندما ضاق ذرعاً بجمال الدين الأفغاني عرض عليه أن يكون رئيساً لوزرائه, ورفض الثائر الذي كافح من أجل حرية الناس في الهند ومصر وإيران وتركيا أن يهادن ملكاً مستبداً طاغية يجوع شعبه وينكل برعاياه, وظل يعلنها حرباً لا هوادة فيها على المستبد سواء كان هذا المستبد إيرانياً أو مصرياً.
سألوه مرة بعد أن عاد من الهند:
ـ كيف حال المسلمين في الهند?
فقال:
إنهم لا يعرفون شيئاً عن دينهم, وإذا سألتهم ما هي دياناتهم قالوا لك: إننا نأكل لحم البقر والحمد لله! أي أنهم مسلمون لا يعترفون بقداسة البقر.
ثم مضى جمال الدين يروي قصة الاستعمار في الهند فقال:
ـ هناك, عرف الإنجليز أن المسلمين هم أخطر العناصر على الاستعمار, لأن الدين الإسلامي يحض أتباعه على أن يكونوا أصحاب السلطان في أوطانهم, وأرادوا لهذا السبب إضعاف هذه العقيدة في نفوس ملايين المسلمين في الهند, فجمعوا الأمراء وأبناء المهراجات والأثرياء وألفوا منهم جمعية لنشر مذهب (النبشرية). ويهدف هذا المذهب إلى محو كل الأديان والتشكيك في كل الأنبياء والعقائد. ونجح الإنجليز. نجحوا بهذه الطريقة وبغيرها من الطرق في استعمار الهند.
استطاع جمال الدين الأفغاني ـ وهو يصارع الاستعمار في مصر وفي إيران وفي الهند وتركيا ـ أن يجمع من حوله عشرات الأحرار الذين آمنوا بأهدافه, وهؤلاء الأحرار هم الذين خلقوا الوعي السياسي بين الملايين من الناس ضحايا الاستعمار.
ولم يكن الأفغاني يعرف مجاملة الناس على حساب حريتهم وحقوقهم. كان صريحاً, لا ينافق ولا يمدح ولا يثني على أحد. قضى في مصر أكثر من عشر سنوات استطاع خلالها أن يقيم رجال الأزهر ويقعدهم. كان يقول لهم إن الدين لم يأمر بالاستسلام أو الخنوع والرضا بالأمر الواقع, وكان يقول لهم: لا تكونوا مثل مسلمي الهند إذا سئلوا عن دينهم قالوا نحن نأكل لحم البقر والحمد لله. وكان يثور وهو يخاطب تلاميذه وأتباعه. كان يثور ويتحول الى أسد هائج فيحدثهم عن الخيانة والتفريط في حقوق الوطن ويروي لهم من صفحات التاريخ قصص البطولة والتضحية وإنكار الذات.
وكانوا كلهم يؤمنون بكل حرف يقوله: لأنه لم يكن يكذب, ولم يكن يعمل لحساب أحد. وحدث أن سافر إلى تركيا وكان دائماً يخطب ويتكلم حيثما كان. وفي تركيا بدأ يتحدث عن الاستبداد, وعن الاستعمار, وعن الخونة. وفي الآستانة التقى شيخ الإسلام (التركي) حسن فهمي أفندي. وقال له شيخ الإسلام إنه سمع عن نشاطه وعن أحاديثه, وهو لهذا يطلب منه أن يكف عن الحديث وعن الخطابة وعن إثارة الناس. وتوجه في اليوم التالي إلى (دار الفنون) واجتمع بعشرات من الأحرار وقضى يومه معهم يحدثهم عن الحرية, وعن الأدب ثم عن حقوق الشعب. وثار شيخ الإسلام حسن أفندي فعمل على إخراج جمال الدين الأفغاني من تركيا حرصاً على الأمن العام, وخرج الأفغاني ليشن حملة على شيخ الإسلام صادقة عنيفة. وقد استطاع جمال الدين الأفغاني أن يخلق في تركيا وعياً سياسيا بخطبه وآرائه وأحاديثه. وقال المستر بلنت المؤرخ الإنجليزي وهو يتحدث عن الانقلاب العثماني: (إن اتجاه العثمانيين إلى جعل حكومتهم دستورية لينسب إلى جمال الدين الأفغاني. لقد أقام في عاصمتهم طويلاً من الوقت يخطب فيهم ويثيرهم).
وفي مصر. ساهم جمال الدين الأفغاني في ثورة الشعب.
وظل الأفغاني يكافح من أجل حرية الشعب وينادي بوجوب تنظيم الحكومات, وبدأ يصطدم بولاة الأمور الذين كان الإنجليز يحرضونهم على البطش بكل حر وبكل صاحب رأي. وكتب مقالات طوالاً ضمنها آراءه وتوجيهاته السياسية. واضطر (جلادستون) إلى الرد على تلك المقالات عندما أحس بخطورتها على الاستعمار.
وكان خديو مصرفي ذلك الوقت يعاني من كراهية الشعب له. وأحس الخديو أن الأفغاني يحرض الشعب عليه وعلى الإنجليز, فأمر بإخراجه من مصر, وسافر جمال الدين إلى الهند, حيث الناس هناك مثل الناس في مصر, جوعى وعراة وحفاة, وطارده الانجليز هناك فسافر إلى ايران حيث بدأ مرة أخرى يحرض الناس على كراهية الشاه!
ولم يطق الشاه صبراً, فبعث إليه رجال البوليس ضاربا بنفوذ الفيلسوف وتعلق الناس به عرض الحائط, وحملوه حملا من فراشه, وظلوا يحملونه حتى أوصلوه إلى حدود تركيا. ومن تركيا أراد السلطان أن يشتري صمت الرجل الثائر فأنعم عليه برتبة (قضاي عسكر).
وذهب رجال القصر وهم يحملون شارات الرتبة وكسوتها إلى بيت الأفغاني. وأخبروه أن إرادة السلطان اقتضت الإنعام عليه بهذه الرتبة, وطلبوا منه أن يرتدي الشارات وغطاء الرأس المذهب والحلة الزاهية. ورفض جمال الدين وقال لرجال القصر:
قولوا لمولاكم السلطان إن جمال الدين يرى أن رتبة العلم هي أعلى الرتب. ثم قولوا له إنني لا أستطيع أن أكون مثل البغل المزركش!
وعندما علم السلطان بما قاله الأفغاني ثار وأمر بطرده فوراً من تركيا.
وهكذا كان الأفغاني مغضوباً عليه دائماً. لأنه نادى بالحرية للناس جميعاً, ولم يكن له وطن. لم يكن له أهل. ولا زوجة ولا ولد, عاش من أجل الناس, ومات غريباً في الآستانة عام 1887 وهو في الثامنة والخمسين من العمر. وقالوا عندما مات إنه كان إيرانياً, ثم قالوا إنه كان أفغانياً, ولكنهم اتفقوا جميعاً على أنه كان مجرد إنسان, إنسان يؤمن بأن كل الناس في كل بقاع الأرض يجب أن يكونوا أحراراً.
مجلة العربي
0 التعليقات:
إرسال تعليق